فصل: قال الشوكاني في الآيات السابقة:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.قال ابن عطية في الآيات السابقة:

وقوله تعالى: {إنا بلوناهم}
يريد قريشا، أي امتحناهم، و{أصحاب الجنة} فيما ذكر قوم إخوة كان لأبيهم جنة وحرث مغل فكان يمسك منه قوته، ويتصدق على المساكين بباقيه، وقيل بل كان يحمل المساكين معه في وقت حصاده وجذه، فيجذيهم منه فمات الشيخ، فقال ولده: نحن جماعة وفعل أبينا كان خطأ، فلنذهب إلى جنتنا ولا يدخلها علينا مسكين، ولا نعطي منها شيئا، قال: فبيتوا أمرهم وعزمهم على هذا، فبعث الله عليها بالليل طائفا من نار أو غير ذلك، فاحترقت، فقيل: أصبحت سوداء، وقيل: بيضاء كالزرع اليابس المحصود، فلما أصبحوا إلى جنتهم لم يروها فحسبوا أنهم قد أخطؤوا الطريق، ثم تبينوها فعلموا أن الله تعالى أصابهم فيها، فتابوا حينئذ وأنابوا وكانوا مؤمنين من أهل الكتاب، فشبه الله تعالى قريشا بهم، في أنهم امتحنهم بمحمد صلى الله عليه وسلم وهداه كما امتحن أولئك بفعل أبيهم وبأوامر شرعهم، فكما حل بأولئك العقاب في جنتهم كذلك يحل بهؤلاء في جميع دنياهم وفي حياتهم، ثم التوبة معرضة لمن بقي منهم كما تاب أولئك.
وقال كثير من المفسرين: السنون السبع التي أصابت قريشا هي بمثابة ما أصاب أولئك في جنتهم. وقوله تعالى: {ليصرمنها} أي ليجدنها، وصرام النخل: جد ثمره وكذلك في كل شجرة، و{مصبحين} معناه: إذا دخلوا في الصباح، وقوله تعالى: {ولا يستثنون} ولا يتوقفون في ذلك، أو ولا يثنون عن رأي منع المساكين، وقال مجاهد معناه: لا يقولون إن شاء الله، بل عزموا على ذلك عزم من يملك أمره، والطائف: الأمر الذي يأتي بالليل، ذكر هذا التخصيص الفراء، ويرده قوله تعالى: {إذا مسهم طائف من الشيطان} [الأعراف: 201]، والصريم: قال الفراء ومنذر وجماعة: أراد به الليل من حيث اسودت جنتهم. وقال آخرون: أراد به الصبح من حيث ابيضت كالحصيد، قاله سفيان الثوري: والصريم، يقال لليل والنهار من حيث كل واحد منهما ينصرم من صاحبه، وقال ابن عباس: الصريم، الرماد الأسود بلغة جذيمة، وقال ابن عباس أيضا وغيره: الصريم، رملة باليمن معروفة لا تنبت فشبه جنتهم بها.
{فتنادوْا مُصْبِحِين (21)}
{تنادوا} معناه: دعا بعضهم بعضا إلى المضي لميعادهم، وقرأ بعض السبعة: {أنُ اغدوا} بضم النون وبعضهم بكسرها، وقد تقدم هذا مرارا. وقولهم {إن كنتم صارمين}، يحتمل أن يكون من صرام النخل، ويحتمل أن يريد إن كنتم من أهل عزم وإقدام على آرائكم من قولك سيف صارم، و{يتخافتون} معناه: يتكلمون كلاما خفيا، ومنه قوله تعالى: {ولا تخافت بها} [الإسراء: 110]، وكان هذا التخافت خوفا من أن يشعر بهم المساكين، وكان لفظهم الذي {يتخافتون} به أن لا يدخلنها اليوم عليكم مسكين. وقرأ ابن مسعود وابن أبي عبلة: {لا يدخلنها} بسقوط أن، وقوله تعالى: {على حرد} يحتمل أن يريد على منع من قولهم: حاردت الإبل، إذا قلت ألبانها فمنعتها، وحاردت السنة، إذا كانت شهباء لا غلة لها، ومنه قول الشاعر الكميت: الطويل:
وحاردت النكد الجلاد فلم يكن ** لعقبة قدر المستعيرين معقب

ويحتمل أن يريد بالحرد القصد، وبذلك فسر بعض اللغويين، وأنشد عليه القرطبي: الرجز:
أقبل سيل جاء من أمر الله ** يحرد حرد الحبّة المغله

أي يقصد قصدها، ويحتمل أن يريد بالحرد، الغضب، يقال: حرد الرجل حردا إذا غضب، ومنه قول الأشهب بن رميلة: الطويل:
أسود شرى لاقت أسودا خفية ** تساقوا على حرد دماء الأساود

وقوله تعالى: {قادرين} يحتمل أن يكون من القدرة، أي هم قادرون في زعمهم، ويحتمل أن يكون من التقدير كأنهم قد قدروا على المساكين، أي ضيقوا عليهم، ومنه قوله تعالى: {ومن قدر عليه رزقه} [الطلاق: 7]، وقوله: {فلما رأوها} أي محترقة حسبوا أنهم قد ضلوا الطريق، وأنها ليست تلك، فلما تحققوها علموا أنها أصيبت، فقالوا: {بل نحن محرومون}، أي قد حرمنا غلتها وبركتها، فقال لهم أعدلهم قولا وخلقا وعقلا وهو الأوسط، ومنه قوله تعالى: {أمة وسطا} [البقرة: 143] أي عدولا خيارا، و{تسبحون}، قيل هي عبارة عن طاعة الله وتعظيمه، والعمل بطاعته. وقال مجاهد وأبو صالح: هي كانت لفظة، الاستثناء عندهم.
قال القاضي أبو محمد: وهذا يرد عليه قولهم: {سبحان ربنا} فبادر القوم عند ذلك وتابوا وسبحوا واعترفوا بظلمهم في اعتقادهم منع الفقراء.
{فأقْبل بعْضُهُمْ على بعْضٍ يتلاومُون (30)}
{يتلاومون} معناه: يجعل كل واحد اللوم في حيز صاحبه، ويبرئ نفسه، ثم أجمعوا على أنهم طغوا، أي تعدوا ما يلزم من مواساة المساكين، ثم انصرفوا إلى رجاء الله تعالى، وانتظار الفرج من لدنه في أن يبدلهم بسبب توبتهم خيرا من تلك الجنة. وقرأ: {يبْدلنا} بسكون الباء وتخفيف الدال، جمهور القراء والحسن وابن محيصن والأعمش، وقرأ نافع وأبو عمرو: بالتثقيل وفتح الباء، وقوله تعالى: {كذلك العذاب} ابتداء مخاطبة للنبي صلى الله عليه وسلم في أمر قريش، والإشارة بذلك إلى العذاب الذي نزل بالجنة، أي ذلك العذاب، هو العذاب الذي ينزل بقريش بغتة، ثم عذاب الآخرة بعد ذلك أشد عليهم من عذاب الدنيا، وقال كثير من المفسرين: العذاب النازل بقريش المماثل لأمر الجنة هو الجدب الذي أصابهم سبع سنين، حتى رأوا الدخان وأكلوا الجلود. اهـ.

.قال أبو السعود في الآيات السابقة:

{إِنّا بلوناهم} أي أهل مكة بالقحطِ بدعوةِ رسولِ الله صلى الله عليه وسلم {كما بلوْنآ أصحاب الجنة} وهم قومٌ من أهلِ الصلاةِ كانتْ لأبيهِم هذِه الجنّةُ دون صنعاء بفرسخينِ فكان يأخذُ منها قوت سنةٍ ويتصدقُ بالباقي وكان يُنادِي الفقراء وقت الصِّرامِ، ويتركُ لهم ما أخطأهُ المنجلُ، وما في أسفلِ الأكداسِ، وما أخطأهُ القطافُ من العنبِ، وما بقي على البساطِ الذي يُبسطُ تحت النخلةِ إذا صُرمتْ، فكان يجتمعُ لهم شيءٌ كثيرٌ فلمّا مات أبُوهُم قال بنُوه إنْ فعلنا ما كان يفعلُ أبُونا ضاق علينا الأمرُ فحلفُوا فيما بينهُم. وذلك قوله تعالى: {إِذْ أقْسمُواْ ليصْرِمُنّها مُصْبِحِين} ليقطعُنّها داخلين في الصباحِ {ولا يسْتثْنُون} أي لا يقولون إنْ شاء الله وتسميتُه استثناءٌ مع أنّه شرطٌ من حيثُ أنّ مؤدّاهُ مُؤدّى الاستثناءِ فإن قولك لأخرُجنّ إنْ شاء الله ولا أخرجُ إلا أنْ يشاءُ الله بمعْنى واحدٍ، أو لا يستثنُون حِصّة المساكينِ كما كان يفعلُهُ أبُوهُم، والجملة مستأنفةٌ. {فطاف عليْها} أي على الجنّةِ {طآئِفٌ} بلاءٌ طائفٌ، وقرئ {طيفٌ} {مِن ربّك} مبتدأٌ من جهتِه تعالى: {وهُمْ نآئِمُون} غافلون عمّا جرتْ بهِ المقاديرُ.
{فأصْبحتْ كالصريم} كالبستانِ الذي صُرمتْ ثمارُه بحيثُ لم يبق منها شيءٌ، فعيلٌ بمعْنى مفعولٍ، وقيل كالليلِ أي احترقتْ فاسودّتْ، وقيل كالنّهارِ أي يبستْ وابيضتْ، سُمِّيا بذلك لأنّ كلا منهُما ينصرمُ عن صاحبِهِ، وقيل الصّريمُ الرمالُ {فتنادوْاْ} أي نادى بعضُهُم بعضا {مُّصْبِحِين} داخلين في الصباحِ {أنِ اغدوا} أي اغدُوا على أنّ أنْ مفسرةٌ أو بأنِ اغدُوا على أنّها مصدريةٌ أي اخرجُوا غُدوة {على حرْثِكُمْ} بستانِكُم وضيعتِكُم، وتعديةُ الغدوِّ بعلى لتضمينِه معْنى الإقبالِ أو الاستيلاءِ {إِن كُنتُمْ صارمين} قاصدين للصّرمِ {فانطلقوا وهُمْ يتخافتون} أي يتشاورُون فيما بينهُم بطريقِ المُخافتةِ وخفي وخفت وخفد ثلاثتُها في معْنى الكتمِ ومنْهُ الخُفْدودُ للخُفّاشِ {أن لاّ يدْخُلنّها} أي الجنة {اليوم عليْكُمْ مّسْكِينٌ} أنْ مفسرةٌ لما في التخافتِ من معْنى القول. وقرئ بطرحِها على إضمارِ القول والمرادُ بنهيِ المسكينِ عن الدخولِ المبالغةُ في النهيِ عن تمكينِه من الدخولِ كقولهِم لا أرينّك هاهنا {وغدوْاْ على حرْدٍ قادرين} أي على نكدٍ لا غيرِ من حاردتِ السّنةُ إذا لم يكُنْ فيها مطرٌ وحاردتِ الإبلُ إذا منعتْ درّها، والمعْنى أنّهم أرادُوا أنْ يتنكدُوا على المساكينِ ويحرمُوهُم وهم قادرون على نفعِهِم فغدوا بحالٍ لا يقدرون فيها إلا على النكدِ والحرمانِ وذلك أنّهُم طلبُوا حرمان المساكينِ فتعجلُوا الحرمان والمسكنة أوْ وغدوا على مُحاردةِ جنّتِهِم وذهابِ خيرِها قادرين بدل كونِهِم قادرين على إصابةِ خيرِها ومنافِعِها أي غدوا حاصلين على النكدِ والحرمانِ مكان كونِهِم قادرين على الانتفاعِ، وقيل الحردِ الحردِ وقدْ قرئ بذلك أي لم يقدرُوا إلا على حنقِ بعضِهِم لبعضٍ لقوله تعالى: {يتلاومون} وقيل الحرْدُ القصدُ والسرعةُ أي غدوا قاصدين إلى جنتهِم بسرعةٍ قادرين عند أنفسِهِم على صِرامِها وقيل هو علمٌ للجنةِ.
{فلمّا رأوْها قالواْ} في بديهةِ رؤيتِهِم {إِنّا لضالُّون} أي طريق جنتِنا وما هي بها.
{بلْ نحْنُ محْرُومُون} قالوه بعد ما تأملُوا ووفقُوا على حقيقةِ الأمرِ مُضربين عن قولهِم الأولِ، أي لسنا ضالين بل نحنُ محرومون حُرِمنا خيرها بجنايتِنا على أنفسِنا {قال أوْسطُهُمْ} أي رأيا أو سِنا {ألمْ أقُلْ لّكُمْ لوْلا تُسبّحُون} لولا تذكرون الله تعالى وتتوبون إليهِ من خُبثِ نيتِكُم وقد كان قال لهم حين عزمُوا على ذلك اذكرُوا الله وتوبُوا إليهِ عن هذهِ العزيمةِ الخبيثةِ من فورِكُم وسارِعُوا إلى حسمِ شرِّها قبل حُلولِ النقمةِ فعصُوه فعيّرهُم، كما ينبئُ عنهُ قوله تعالى: {قالواْ سبحان ربّنا إِنّا كُنّا ظالمين} وقيل المرادُ بالتسبيحِ الاستثناءُ لاشتراكهِما في التعظيمِ أو لأنّه تنزيهٌ لهُ تعالى عن أنْ يجري في ملكِهِ ما لا يشاؤُه {فأقْبل بعْضُهُمْ على بعْضٍ يتلاومون} أي يلومُ بعضُهم بعضا فإنّ منهُم من أشار بذلك ومنهُم من استصوبهُ ومنهُم من سكت راضيا بهِ ومنهُم من أنكرهُ {قالواْ ياويلنا إِنّا كُنّا طاغين} متجاوزين حدود الله {عسى ربُّنا أن يُبْدِلنا} وقرئ بالتشديدِ أي يُعطينا بدلا منها ببركةِ التوبةِ والاعترافِ بالخطيئةِ. {خيْرا مّنْها إِنّا إلى ربّنا راغبون} راجون العفو طالبون الخير. وإلى لانتهاءِ الرغبةِ، أو لضمنِها معْنى الرجوعِ. عن مُجاهدٍ تابوا فأُبدِلُوا خيرا منها، ورُوي أنّهم تعاقدُوا وقالوا إنْ أبدلنا الله خيرا منها لنصنعنّ كما صنع أبُونا فدعوا الله تعالى وتضرعُوا إليهِ فأبدلهُم الله تعالى من ليلتِهِم ما هو خيرٌ منها، قالوا إنّ الله تعالى أمر جبريل عليه السلام أنْ يقتلع تلك الجنة المحترقة فيجعلها بِزُغر من أرضِ الشامِ ويأخذ من الشامِ جنة فيجعلها مكانها، وقال ابنُ مسعودٍ رضي الله تعالى عنهُ إنّ القوم لمّا أخلصُوا وعرف الله منهُم الصدق أبدلهُم جنة يقال لها الحيوانُ فيها عنبٌ يحملُ البغلُ منهُ عُنقودا وقال أبُو خالدٍ اليمانيُّ دخلتُ تلك الجنّة فرأيتُ كلّ عنقودٍ منها كالرجلِ الأسودِ القائمِ. وسُئِل قتادةُ عن أصحابِ الجنّةِ أهُم مِنْ أهلِ الجنّةِ أم مِنْ أهلِ النارِ فقال: لقد كلفتني تعبا. وعنِ الحسنِ رحمهُ الله تعالى: قول أصحابِ الجنةِ {إنّا إلى ربِّنا راغبون} لا أدرِي إيمانا كان ذلك منهُم أو على حدِّ ما يكونُ من المشركين إذا أصابتْهُم الشدةُ، فتوقف في أمرِهِم، والأكثرون على أنّهُم تابُوا وأخلصُوا، حكاهُ القُشيريٌّ.
{كذلِك العذاب} جملة منْ مبتدأٍ وخبرٍ مُقدمٍ لإفادةِ القصرِ، والألفُ واللامُ للعهدِ أي مثلُ الذي بلونا بهِ أهل مكة وأصحاب الجنةِ عذابُ الدنيا. {ولعذابُ الأخرة أكْبرُ} أعظمُ وأشدُّ {لوْ كانُواْ يعْلمُون} أنّه أكبرُ لاحترزُوا عمّا يؤدِّيهِم إليهِ. اهـ.

.قال الشوكاني في الآيات السابقة:

قوله: {إِنّا بلوناهم} يعني: كفار مكة، فإن الله ابتلاهم بالجوع والقحط بدعوة رسول الله صلى الله عليه وسلم عليهم، والابتلاء الاختبار، والمعنى: أعطيناهم الأموال ليشكروا لا ليبطروا، فلما بطروا ابتليناهم بالجوع والقحط {كما بلوْنا أصحاب الجنة} المعروف خبرهم عندهم، وذلك أنها كانت بأرض اليمن على فرسخين من صنعاء لرجل يؤدّي حق الله منها، فمات، وصارت إلى أولاده، فمنعوا الناس خيرها وبخلوا بحقّ الله فيها.
قال الواحدي: هم قوم من ثقيف كانوا باليمن مسلمين ورثوا من أبيهم ضيعة فيها جنات وزرع ونخيل، وكان أبوهم يجعل مما فيها من كل شيء حظا للمساكين عند الحصاد والصرام، فقالت بنوه: المال قليل والعيال كثير، ولا يسعنا أن نفعل كما كان يفعل أبونا، وعزموا على حرمان المساكين، فصارت عاقبتهم إلى ما قصّ الله في كتابه.
قال الكلبي: كان بينهم وبين صنعاء فرسخان ابتلاهم الله بأن حرق جنتهم.
وقيل: هي جنة كانت بصوران، وصوران على فراسخ من صنعاء، وكان أصحاب هذه الجنة بعد رفع عيسى بيسير {إِذْ أقْسمُواْ ليصْرِمُنّها مُصْبِحِين} أي: حلفوا ليقطعنها داخلين في وقت الصباح، والصرم القطع للثمر والزرع، وانتصاب {مُّصْبِحِين} على الحال من فاعل ليصرمنها، والكاف في: {كما بلوْنا} نعت مصدر محذوف أي: بلوناهم ابتلاء كما بلونا، وما مصدرية، أو بمعنى الذي، وإذ ظرف لبلونا منتصب به، وليصرمنها جواب القسم {ولا يسْتثْنُون} يعني: ولا يقولون إن شاء الله، وهذه الجملة مستأنفة لبيان ما وقع منهم أو حال.
وقيل المعنى: ولا يستثنون للمساكين من جملة ذلك القدر الذي كان يدفعه أبوهم إليهم، قاله عكرمة.
{فطاف عليْها طائِفٌ مِّن رّبّك وهُمْ نائِمُون} أي: طاف على تلك الجنة طائف من جهة الله سبحانه، والطائف قيل: هو نار أحرقتها حتى صارت سوداء، كذا قال مقاتل.
وقيل: الطائف جبريل اقتلعها، وجملة {وهُمْ نائِمُون} في محل نصب على الحال {فأصْبحتْ كالصريم} أي: كالشيء الذي صرمت ثماره أي: قطعت، فعيل بمعنى مفعول، وقال الفرّاء: كالصريم كالليل المظلم، ومنه قول الشاعر:
تطاول ليلك الجون الصريم ** فما ينجاب عن صبح بهيم

والمعنى: أنها حرقت فصارت كالليل الأسود، قال: والصريم الرماد الأسود بلغة خزيمة.
وقال الأخفش: أي كالصبح انصرم من الليل، يعني: أنها يبست وابيضت.
وقال المبرد: الصريم الليل، والصريم النهار أي: ينصرم هذا عن هذا، وذاك عن هذا، وقيل: سمي الليل صريما لأنه يقطع بظلمته عن التصرّف، وقال المؤرج: الصريم الرملة؛ لأنها لا يثبت عليها شيء ينتفع به، وقال الحسن: صرم منها الخير أي: قطع {فتنادوْاْ مُصْبِحِين} أي: نادى بعضهم بعضا داخلين في الصباح.
قال مقاتل: لما أصبحوا قال بعضهم لبعض {أنِ اغدوا على حرْثِكُمْ} و(أن) في قوله: {أنِ اغدوا} هي المفسرة لأنّ في التنادي معنى القول، أو هي المصدرية أي: بأن اغدوا، والمراد اخرجوا غدوة، والمراد بالحرث: الثمار والزرع {إِن كُنتُمْ صارمين} أي: قاصدين للصرم، والغدوّ يتعدّى بإلى وعلى، فلا حاجة إلى تضمينه معنى الإقبال كما قيل، وجواب الشرط محذوف أي: إن كنتم صارمين فاغدوا، وقيل: معنى صارمين ماضين في العزم، من قولك سيف صارم {فانطلقوا وهُمْ يتخافتون} أي: ذهبوا إلى جنتهم وهم يسرّون الكلام بينهم؛ لئلا يعلم أحد بهم، يقال: خفت يخفت، إذا سكن ولم ينبس، ومنه قول دريد بن الصمة:
وإني لم أهلك ملالا ولم أمت ** خفاتا وكلا ظنه بي عويمر

وقيل المعنى: يخفون أنفسهم من الناس حتى لا يروهم، فيقصدوهم، كما كانوا يقصدون أباهم وقت الحصاد، والأوّل أولى لقوله: {أن لاّ يدْخُلنّها اليوم عليْكُمْ مّسْكِينٌ} فإنّ (أن) هي المفسرة للتخافت المذكور لما فيه من معنى القول، والمعنى: يسرّ بعضهم إلى بعض هذا القول، وهو لا يدخل هذه الجنة اليوم عليكم مسكين، فيطلب منكم أن تعطوه منها ما كان يعطيه أبوكم.
{وغدوْاْ على حرْدٍ قادرين} الحرد يكون بمعنى المنع والقصد.
قال قتادة، ومقاتل، والكلبي، والحسن، ومجاهد: الحرد هنا بمعنى القصد؛ لأن القاصد إلى الشيء حارد.
يقال: حرد يحرد إذا قصد، تقول: حردت حردك أي: قصدت قصدك، ومنه قول الراجز:
أقبل سيل جاء من عند الله ** يحرد حرد الجنة المغلة

وقال أبو عبيدة، والمبرد، والقتيبي: على حرد على منع، من قولهم: حردت الإبل حردا: إذا قلت ألبانها، والحرود من النوق هي القليلة اللبن.
وقال السديّ، وسفيان، والشعبي {على حرْدٍ}: على غضب، ومنه قول الشاعر:
إذا جياد الخيل جاءت تردى ** مملوءة من غضب وحرد

وقول الآخر:
تساقوا على حرد دماء الأساود

ومنه قيل: أسد حارد، وروي عن قتادة، ومجاهد أيضا أنهما قالا: على حرد أي: على حسد.
وقال الحسن أيضا: على حاجة وفاقة.
وقيل: على حرد: على انفراد، يقال: حرد يحرد حردا أو حرودا: إذا تنحى عن قومه، ونزل منفردا عنهم ولم يخالطهم، وبه قال الأصمعي، وغيره.
وقال الأزهري: حرد اسم قريتهم، وقال السديّ: اسم جنتهم.
قرأ الجمهور: {حرد} بسكون الراء.
وقرأ أبو العالية، وابن السميفع بفتحها، وانتصاب {قادرين} على الحال.
قال الفراء: ومعنى {قادرين}: قد قدروا أمرهم وبنوا عليه، وقال قتادة: قادرين على جنتهم عند أنفسهم.
وقال الشعبي: يعني قادرين على المساكين {فلمّا رأوْها} أي: لما رأوا جنتهم، وشاهدوا ما قد حلّ بها من الآفة التي أذهبت ما فيها {قالواْ إِنّا لضالُّون} أي: قال بعضهم لبعض: قد ضللنا طريق جنتنا، وليست هذه.
ثم لما تأملوا وعلموا أنها جنتهم، وأن الله سبحانه قد عاقبهم بإذهاب ما فيها من الثمر والزرع، قالوا: {بلْ نحْنُ محْرُومُون} أي: حرمنا جنتنا بسبب ما وقع منا من العزم على منع المساكين من خيرها، فأضربوا عن قولهم الأوّل إلى هذا القول، وقيل: معنى قولهم: {إِنّا لضالُّون} أنهم ضلوا عن الصواب بما وقع منهم.
{قال أوْسطُهُمْ} أي: أمثلهم وأعقلهم وخيرهم {ألمْ أقُلْ لّكُمْ لوْلا تُسبّحُون} أي: هلا تسبحون يعني: تستثنون، وسمي الاستثناء تسبيحا؛ لأنه تعظيم لله وإقرار به، وهذا يدلّ على أن أوسطهم كان أمرهم بالاستثناء فلم يطيعوه، وقال مجاهد، وأبو صالح، وغيرهما: كان استثناؤهم تسبيحا.
قال النحاس: أصل التسبيح التنزيه لله عزّ وجلّ، فجعل التسبيح في موضع إن شاء الله، وقيل المعنى: هلا تستغفرون الله من فعلكم، وتتوبون إليه من هذه النية التي عزمتم عليها، وكان أوسطهم قد قال لهم ذلك، فلما قال لهم ذلك بعد مشاهدتهم للجنة على تلك الصفة قالوا: {سبحان ربّنا إِنّا كُنّا ظالمين} أي: تنزيها له عن أن يكون ظالما فيما صنع بجنتنا، فإن ذلك بسبب ذنبنا الذي فعلناه.
وقيل: معنى تسبيحهم الاستغفار أي: نستغفر ربنا من ذنبنا إنا كنا ظالمين لأنفسنا في منعنا للمساكين.
{فأقْبل بعْضُهُمْ على بعْضٍ يتلاومون} أي: يلوم بعضهم بعضا في منعهم للمساكين وعزمهم على ذلك، ثم نادوا على أنفسهم بالويل حيث قالوا: {ياويلنا إِنّا كُنّا طاغين} أي: عاصين متجاوزين حدود الله بمنع الفقراء وترك الاستثناء.
قال ابن كيسان: أي: طغينا نعم الله، فلم نشكرها كما شكرها أبونا من قبل، ثم رجعوا إلى الله وسألوه أن يعوّضهم بخير منها، فقالوا: {عسى ربُّنا أن يُبْدِلنا خيْرا مّنْها} لما اعترفوا بالخطيئة رجوا من الله عزّ وجلّ أن يبدلهم جنة خيرا من جنتهم، قيل: إنهم تعاقدوا فيما بينهم، وقالوا: إن أبدلنا الله خيرا منها لنصنعنّ كما صنع أبونا، فدعوا الله وتضرّعوا، فأبدلهم من ليلتهم ما هو خير منها.
قرأ الجمهور: {يبدلنا} بالتخفيف، وقرأ أبو عمرو، وأهل المدينة بالتشديد، وهما لغتان، والتبديل تغيير ذات الشيء، أو تغيير صفته، والإبدال رفع الشيء جملة، ووضع آخر مكانه، كما مضى في سورة سبأ {إِنّا إلى ربّنا راغبون} أي: طالبون منه الخير راجون لعفوه راجعون إليه، وعدي بإلى، وهو إنما يتعدى بعن أو في لتضمينه معنى الرجوع {كذلِك العذاب} أي: مثل ذلك العذاب الذي بلوناهم به، وبلونا أهل مكة عذاب الدنيا، والعذاب مبتدأ مؤخر، و{كذلك} خبره {ولعذابُ الأخرة أكْبرُ لوْ كانُواْ يعْلمُون} أي: أشد وأعظم لو كان المشركون يعلمون أنه كذلك، ولكنهم لا يعلمون.
وقد أخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله: {كما بلوْنا أصحاب الجنة} قال: هم ناس من الحبشة كان لأبيهم جنة، وكان يطعم منها المساكين، فمات أبوهم، فقال بنوه: أن كان أبونا لأحمق كان يطعم المساكين ف {أقْسمُواْ ليصْرِمُنّها مُصْبِحِين} وأن لا يطعموا مسكينا.
وأخرج ابن جرير عنه {فطاف عليْها طائِفٌ} قال: أمر من الله.
وأخرج عبد بن حميد، وابن أبي حاتم، وابن مردويه عن ابن مسعود قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إياكم والمعصية، فإن العبد ليذنب الذنب الواحد، فينسّى به الباب من العلم، وإن العبد ليذنب، فيحرم به قيام الليل، وإن العبد ليذنب الذنب، فيحرم به رزقا قد كان هيئ له. ثم تلا رسول الله صلى الله عليه وسلم: {فطاف عليْهِا طائِفٌ مِّن رّبّك وهُمْ نائِمُون فأصْبحتْ كالصريم} قد حرموا خير جنتهم بذنبهم».
وأخرج عبد الرزاق، وعبد بن حميد، وابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله: {كالصريم} قال: مثل الليل الأسود.
وأخرج ابن المنذر عنه: {وهُمْ يتخافتون} قال: الإسرار والكلام الخفيّ.
وأخرج ابن جرير، وابن المنذر عنه أيضا {على حرْدٍ قادرين} يقول: ذو قدرة.
وأخرج ابن المنذر، وابن أبي حاتم عنه أيضا في قوله: {إِنّا لضالُّون} قال: أضللنا مكان جنتنا. وأخرجا عنه أيضا {قال أوْسطُهُمْ} قال: أعدلهم. اهـ.